في كنف مؤتمر ميونخ للأمن، صُدمت الأوساط الأوروبية بخطاب نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس؛ الذي شنَّ هجومًا أيديولوجياً شرساً ولاذعاً على قادة أوروبا، مُشيراً إلى أن الديمقراطية والقيم الأساسية تتلاشى داخل قارتهم. يُبرز الخطاب صدمة واضحة في العلاقات عبر الأطلسي، إذ ينتقد فانس؛ القيادات الأوروبية لتجاهلها مخاوف الناخبين والتقصير في مواجهة تحديات الهجرة غير الشرعية، مما يدعو إلى إعادة النظر في مدى التزام القارة بالمبادئ الديمقراطية التي طالما عُدّت حجر الزاوية في حضارتها.
قيم متردية
ذكر فانس في كلمته، أن التهديد الأكبر الذي يواجه أوروبا لا ينبع من قوى خارجية مثل روسيا أو الصين، بل هو نتيجة تراجعها الداخلي عن قيم الحرية والتعبير. فقد اتهم قادتها بإقامة نظامٍ يعتمد على رقابة إعلامية صارمة وإلغاء انتخاباتٍ يُفترض أن تكون تعبيراً عن إرادة الشعب، مما جعل الديمقراطية في أوروبا تبدو وكأنها تحت رحمة قوى تُسكت الأصوات المعارضة. وفي هذا السياق، أعرب فانس؛ عن مخاوفه من أن إهمال المخاوف الشعبية قد يقود إلى تفاقم الانقسام الداخلي، مُشيراً إلى أن التجاهل المستمر لآراء المواطنين يفتح الباب أمام أنماط حكمٍ استبدادية، وفقًا لصحيفة “الجارديان” البريطانية.
وفي تعليقٍ مشابه، تحدث فانس عن حالة التشويه التي تعانيها المؤسسات الأوروبية؛ إذ وصفها بأنها “منطقة موبوءة بمصطلحات عفا عليها الزمن” تُستعمل لإخفاء فشل السياسات الحقيقية في مواجهة الهجرة وتنظيم شؤون المواطنين. كما انتقد ما اعتبره غياباً واضحاً للاستماع إلى الأصوات الشعبية، مؤكداً أن تجاهل مطالب المواطنين يترك القادة في حالة من الانفصال عن الواقع، وهو ما يهدّد استقرار الديمقراطية الأوروبية.
قيادات متصارعة
ولم يقتصر هجوم فانس على النقد العام فحسب، بل وجّه أيضاً ضربة مباشرة إلى المؤسسات الأوروبية، حيث أشار إلى إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في بعض الدول، مثل رومانيا، بتهمة تعرُّضها لضغوطٍ خارجية غير مبررة. وأكّد فانس أن مثل هذه الإجراءات لا تمثل سوى دلالة على ضعف القيم الديمقراطية، معتبراً أن المسار الذي يسلكه السياسيون الأوروبيون بعيدٌ عن آمال ومطالب المواطنين الحقيقيين. كما عبّر عن استيائه من محاولة القادة الأوروبيين حجب الأصوات المعارضة عن ساحات النقاش العام، وهو ما يعدّه خطراً يهدّد مستقبل الديمقراطية.
ولم يتوانَ المسؤولون الأوروبيون عن الرد على هذا الخطاب، حيث وصف وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس؛ تصريحات فانس بأنها “غير مقبولة” ومخالفة للمبادئ التي يقوم عليها النظام الديمقراطي الأوروبي. وأكَّدَ بيستوريوس؛ أن أوروبا تظل متشبثة بقيمها الراسخة التي تضمن تعدُّد الآراء وتتيح لجميع الأطراف المشاركة في الحوار السياسي، مما يجعل الخطاب الأمريكي محاولة استفزازية لا جدوى منها. وبهذا، تجلت الفجوة المتزايدة بين الرؤية الأمريكية الجديدة والقيم الأوروبية التقليدية.
هجرة متأزمة
واستخدم فانس؛ حادثة مؤسفة في ميونخ كدليلٍ على تدهور الوضع الأمني في أوروبا؛ فقد استشهد بحادثة محاولة تنفيذ هجومٍ باستخدام سيارة، أسفر عن إصابة عددٍ من الأشخاص، معتبراً أنها نتيجة مباشرة لفشل القادة الأوروبيين في السيطرة على موجات الهجرة غير النظامية. وفي تصريحٍ لاذعٍ، دعا فانس إلى إعادة النظر في السياسات المعتمدة، مشدداً على ضرورة حماية الحضارة الأوروبية من الانهيار الذي قد ينتج عن تكرار مثل هذه النكسات المؤسفة. وأكَّدَ أن إعادة تقييم الإستراتيجيات المتعلقة بالهجرة أصبحت ضرورية لتجنّب مخاطر مستقبلية تهدّد استقرار القارة.
وفي هذا السياق، حثَّ فانس على ضرورة تبني سياسة أكثر شمولاً تتيح التفاعل مع جميع التيارات السياسية، حتى تلك التي تنتمي إلى التيارات الشعبوية. وقد وجّه النداء لاستماع السياسيين الأوروبيين إلى مطالب الناخبين، حتى إن كانت تأتي من أطيافٍ غير تقليدية مثل حزب “البديل من أجل ألمانيا”، معتبراً أن تجاهل مثل هذه الأصوات قد تكون له آثارٌ كارثية على الديمقراطية. وأثار هذا الموقف ردود فعلٍ متباينة بين المسؤولين الأوروبيين، الذين اعتبروا أن الحوار مع جميع الأطياف ضرورة أساسية للحفاظ على وحدة المجتمع الديمقراطي.
تحديات مشتركة
ومع تصاعد حدّة الخطاب الأمريكي، بدأت تظهر علامات الشقاق الواضح في العلاقات عبر الأطلسي، حيث يشير فانس إلى أن القادة الأوروبيين خانوا الثقة التي كانت تجمعهم مع الولايات المتحدة. فقد تبنى فانس رؤية نقدية واضحة تشكّك في مدى توافق الأجندات الأمريكية والأوروبية، مُشيراً إلى أن التراجع في حرية التعبير وإلغاء الانتخابات يُمثلان مؤشرات خطيرة على زوال المبادئ الديمقراطية. كما تناول الخطاب قضية الانقسام الداخلي الذي يعانيه المجتمع الأوروبي، معتبراً أن ذلك سيترك أثراً بعيد المدى على قدرة القارة على مواجهة التحديات العالمية.
وعلى الرغم من حدة الانتقادات الموجّهة من الجانب الأمريكي، فإن المسؤولين الأوروبيين شدّدوا على أن استمرارية النظام الديمقراطي لا تعتمد على استثناء أي فئةٍ من التيارات السياسية، بل على شمولها كافة في عملية صُنع القرار. ودعا بعض المسؤولين إلى فتح حوارات جادة مع القوى الشعبية لتصحيح مسار السياسات التي طالما أُظهرت على أنها بعيدة عن واقع المواطن الأوروبي.
في ظل هذه التصريحات المتضاربة، يبقى السؤال قائماً: هل يستطيع كلا الطرفين تجاوز الخلافات الحالية لتحقيق مستقبل أكثر استقراراً ووضوحاً؟